المنهج الرمزي في القرآن الكريم وضوابطه

element element element element
المنهج-الرمزي-في-القرآن-الكريم-وضوابطه

المنهج الرمزي في القرآن الكريم وضوابطه

 

 

المَنْهَجُ الرَّمزيُّ فِي القُرآنِ الكَريمِ وضَوَابِطُهِ

سُورَةُ الرَّحمَنُ نمُوذَجًا

رسالة الماجستير في الدراسات الإسلامية

كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية

د. فاطمة فاضل العيساوي

2022م

يمنع منعًا باتًا  نسخ أو أخذ أو استخدام ما جاء في هذا المقال دون اذن رسمي خطي من كاتبه 

وإلا سنضطر أسفين للقانون

 الإهداء 

إلى حبيبي الواحد الأحد إلهي

إلى سيدي ونور عيني مُحمد رسول الله r

إلى كلّ أنثى ضحّت وتعبت ونهضت من جمر النار بعد أن دُفنت فيه فكانت أنثى حديدية لا تلين للظروف ولا تخدشها الطعنات

 

التي اتجهت إلى الله الرَّحمن وتركت ما سواه فكان سندها وعونها في وجه من أرادها أن تهوي في بحور الظلمات والآلام وجعلها جبلاً أمام عاتي الرياح

 

إلى كلّ مَنْ يبحث في حقيقة القرآن ووجده بحراً لا نهاية للغوص في أسراره وإلى كل من عَلّمَ أنَّ العقل غواص في بحر القلب

 

إلى القلة القليلة الذين وصفهم الله بقوله ]    [، [آل عمران: 7]، فأضاءوا لنا الطريق لنسير على نهجهم ونكمل طريقهم

 

إلى كلّ من أكرمني من علومه في هذا البحث خاصة وأمدني بسلطان العلم أهديهم دعاء ورجاء أن يفيض الله تعالى عليهم من خزائن رحمته الأحياء منهم والمنتقلين

لكم خالص احترامي

بسم الله الرحمن الرحيم

يمنع منعًا باتًا  نسخ أو أخذ أو استخدام ما جاء في هذا المقال دون أذن رسمي خطي من كاتبه 

وإلا سنضطر أسفين لرفع دعوة قضائية  

 

المقدمة

الحمدُ للهِ الذي اصطفى من يشاء من أهل الإخلاص والصفاء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد راموز العلوم القدسية، ونور الإشارات الخفية، منهج الأمم الكونية، والكنز المحفوظ في صحائف العلوم الغيبية، صاحب التجليات الإلهية، وعلى آله وصحبه ومن سار على خطاه في دروب المحبة الإلهية، صلاةً متواترةً صَفيةً نَقيةً.

وبعد:

لقد أحاطَ القرآنُ الكريم كلماته المادية بسياجات روحية شفافة، كانت وما زالت قادرة على أن تُشيع المنافع بين الناس، وفي طياته إشارات رمزية للحثّ على تدبّره، واستنباط الجواهر المكنونة في داخله، فالفهم العميق ذو الأساس العلمي والروحاني، وارتباطه مع الوجود بدقائقه وأسراره، إنما يورث العَالِم الخشية. فكان بذلك أن بُني هذا البحث على الخشية المرتبطة بالإتقان العلمي (منهج ربط الظاهر مع الباطن)، وإنّ أكثر الناس خشية لله تعالى وأعظمهم في آفاقها هم العلماء في المعارف القرآنية الربانية الروحية، والذين يربطون معارفهم تلك بالمعارف المادية، فلا يجعلون علمهم ماديًا بحتًا ولا يجردونه من علائقه الروحية الإيمانية.

ومن بين هذه العلوم (فن الرمز) الذي يمتلك أسرارًا وعجائب لا يدرك دقائقها سوى العلماء المختصين، فهم وحدهم القادرون على الفهم الأعمق والغوص الأدقّ في بحر آياته واستخراج المكنون داخله، رغم تفاوتهم بشيء وهبيّ من الله U، وشيء كسبيّ عن طريق سعيهم لاكتشافه. وبالتالي فإنَّ تأسيس العلوم القرآنية على العلم الظّاهر والعلم الباطن ليس صدفة بل هو نظام القرآن المعجز. ولا يجب الفصل بينهما عند البحث في علوم القرآن وذلك من أجل الوصول إلى مستوى العلمية الدقيقة.

وبالتالي فإنَّ الكلمات والصور الموجودة في القرآنِ الكريمِ ما هي في حقيقة الأمر إلا توحيدًا (يكمل بعضه بعضًا) بين العالم المطلق (الكون الظاهر)، والعالم الغيبي (جنة ونار وبرزخ)، والإنسان والقرآن.

انطلاقًا من هذه الوحدة كانت نقطة الالتقاء بينهم الرمز؛ الذي هو نقطة استحواذ الواقع وتطابق المادي مع الغيبي، فيكون بذلك أحد الأدلة الحية على ارتباط الظاهر بالباطن، والله تعالى قد ألبس بعض الحقائق القرآنية ثوبًا رمزيًا، فحْواه أنّ الله يريد إخفاء أمر ما مع إرادة إفهام المخاطب ما أخفاه من كلامه، فيرمز له من ضِمنه رمزًا يُهتدى به إلى طريق استخراج ما أخفاه؛ فيُعتبَر بذلك شكلًا متقدمًا من أشكال التفكير، ووسيلة للتعبير تلجأ إلى اكتشافه ذهنيّة العارف باللَّه في حالة التوقد الروحي لفهم الخطاب الإلهي.

والرمز هو مفتاح الشيء، وهو لغة فوق لغة الكلام، ونقطة البداية إلى الحقيقة، واللغة الحية للقرآن الكريم المخاطبة للعقل البشري بمستواه الأعلى، وهو صيغة جمالية لمعان ودلالات خفية مجردة. فالرموز ليست مرادة لنفسها وإنّما وجدت لِمَا رُمِزت له ولما أُلْغِزَ وأُخفي فيها، ومواضعها في القرآن على مستويات أظهرها في آيات الاعتبار، لتصل للأعقد وهي الحروف المقطعة في أوائل السور.

وفي الحقيقة لا يوجد تعريف لكلمة الرمز بالعموم، فكلّ علم له تعريفه الخاص للرمز. فنجد في القرآن أنّ ماهية الرمز هي إدراك أن شيئًا ما يقف بديلًا عن شيء آخر، أو يحل محله ويُمَثِّلُه، بحيث تكون العلاقة بين الاثنين هي علاقة الخاص بالعام والظاهر بالباطن والعياني بالمجرد.

وبالتالي تَنْتُجُ عن هذه العلاقة شيفرة قيمة لها علماؤها المختصون، وقد تستخدم بعض حركات الجسم رموزًا، ويميز العلماء بين الرمز والعلامة، فالعلامة صورة الشيء المادي أمّا معناها الباطني فهو رمزُها، فالدائرة رمزها الكمال والإطباق والنهاية واللانهاية. والمشار إليه بعلامة وكلمة رمزية أبسط بكثير من الفكرة أو المعنى المشار إليه بصورة رمزية، فهو يحمل دلالات عدَّة حسب وقوعه ضمن سياق النص القرآني، فكلمة (الضرب) هي كلمة رمزية لمعنى واسع؛ فهو رمز للعسل الأبيض الغليظ، وضرب القلب أي تحرَّك رمز للنبض، ضرب آباطَ الأمور رمز للمعرفة أي عرف بواطنها. وبهذا يكون الرمز هو أحد المحركات الرئيسة للتمييز بين ما هو باطن بناءً على الظاهر.

وعالم الرمز عالم واسع فهو قائم في كلّ شيء من أجزاءِ الذرة حتى المجرات، وكل منها يحمل شيفرة رمزية خاصة به، وبذلك كانت للإنسان رموزه الخاصة، وللطبيعة رموزها، ولعالم الفكر رموزه، ولعالم الغيب رموزه.... والقرآن هو صلة الوصل بين تلك الرموز كلها، وبناء على ذلك نستطيع تقسيم الرموز إلى نوعين؛ وهما: الرموز المادية والرموز المعنوية.

فالرموز المادية لها بعد مادي أمَّا الرموز المعنوية فليس لها بعد مادي، وهي في غيب الله مثل (النفس)، ولكن يمكن معرفة رمزها هل هي خيّرة أم لا؟ حسب المعطيات الظاهرة منها أو الدالة عليها. ممَّا يجعل الرمز يغطي دلالة الترابط بين أمرين: (محسوس ومجرد)، فيوضح المجرد بناء على معطيات المحسوس، وبالتالي يجعل ما هو تلميحيّ وخفيّ في وحدة متماسكة مترابطة مع ما هو محسوس، فتكون لوجود هذه الشيفرة جاذبية تثير فضول العالم وحسّه الجمالي، فتدفعه للتفكر في آيات القرآن وفَهْمِ المراد منها.

والتلميح من خلال الرمز أجمل من التصريح، فقيمة الرمز تكمن في أنَّه من الموضوعات الغامضة المشفرة. وعند دراسته لا بدَّ من الاستناد على الفهم الإنساني والإدراك بالبصيرة ثم تعاونهما مع الذكاء الروحي والعقل الباطن، وتأييدهما بأدلة قطعية، فالأصل في الأشياء إبراز حقائقها على وجوه مفهومة.

ولا نلجأ للرمز إلا بقصد الإخفاء والإيجاز، فغالبًا ما تُختصرُ معانٍ ودلالات كثيرة بكلمة أو صورة رمزية تطلق عنان التفكير للمُتَلَقِّي، مثل رسم شكل القلب أو كلمة الحب، فيعدُّ بذلك فنًا من فنون البلاغة القرآنية، فهو إيجاز وتعبير وتصوير وإيحاء وتعمية لا يدركه إلا أصحاب القلوب الصافية التي تفهم الخطاب الغامض بالبصيرة.

وعند دراسة الرمز ينبغي البحث في المركز وما ينطوي عليه من بعد ثالث. فكلُّ رمز يقوم على تشابك وتداخل العناصر بعضها مع بعض. فعين الصورة هي جوهر حياتها الروحية لمعرفة حقيقتها، وقد يعبّر الرمز عن خاصية التماثل بين الأشياء كأن يدلّ على شيء آخر يماثله في الجوهر أو الدلالة أو الشكل، فماء الرجل والماء العادي رمزان للحياة. وقد يأخذ صورة مركبة تنطوي على نظام متعدد يشتمل عناصر وحدود عدّة، بحيث يمثّل كلّ عنصر وكلّ حدّ من حدود هذا النظام الرمزي عنصرًا أو جانبًا من جوانب نظام آخر، مثال (جهنم).

لذلك عند دراسة النصّ القرآني تجب دراسته من ناحية عقلية وروحية وعلمية، ومن ثمَّ تحليل دلالاته اللغوية وصوره البيانية ومعرفة أبعاده لإدراك سرّ إعجازه. فإعجاز القرآن كامن داخله وليس إعجازًا نابعًا من تدخّل خارجيّ لمنع العرب من الإتيان بمثله، فهو كامن في نظمه عبر نظام معقد من الرموز، التي هي بحاجة إلى الفهم ثم فكّ شيفرته. فللغة القرآن رموزها وحروفها وبالتالي يكون الرمز حالة خاصة من اللغة، يستطيع التواصل بها من يتقنها، فهو لغة فوق لغة الكلام يفهمها من فهم دلالاتها.

ومعظم ألفاظ القرآن الكريم هي في حقيقة أمرها شيفرات رمزية لا مجرّد ألفاظ، وكلّ كلمة من القرآن الكريم لها دلالتها الخاصة ووظيفتها المعنوية، إذ لا يستعمل النصّ القرآني كلمة إلا للدلالة على أمر بعينه لا تحققها مرادفاتها، أما الأدوات التي تستخدمها اللغة فهي الكناية الخفية والتعبير والتمثيل والتصوير...، ودلالات وإشارات القرآن كثيرة على ذلك؛ لذلك نجد أنّ الله تعالى يوجه خطابه للخاصة من الناس.

وجوهر كلام الله ليس في الدلالات المباشرة للعلامات اللغوية بل في الدلالات الرمزية وراء هذه العلامات، والتي ترتبط بخصوصية الخطاب، فالخطاب الإلهي خطاب تواصليّ وتبليغيّ وإعجازيّ وبلاغيّ ورمزيّ وتشريعيّ وإيحائيّ يقتضي قراءة عميقة أساسها معرفيّ. فيكون بذلك التفسير الذي هو الإظهار والكشف أي الأخذ بالظاهر وشرح ألفاظ القرآن بما ظهرت عليه أي البينات نقطة الانطلاق. ويكون التأويل حجر الزاوية لعالم الرموز والدلالات الحقّة التي لجأ إليها الرمز لتورية ما؛ بغية إرادة الغموض. فتكون مهمة التفسير جمع كلّ العلوم الممهدة للتأويل رمزيًا وتكون جزءًا من عملياته، وتكون العلاقة بينهما علاقة الخاصّ بالعام من جهة، أو علاقة النقل بالاجتهاد من جهة أخرى وهي العلاقة التي يعبّر عنها القدماء بأسماء الرواية والدراية، فالتفسير يتعلق بالرواية والتأويل رمزيًا يتعلق بالدراية.

وقد يُستخدم التأويل الرمزيّ بمعنى المنهج الإشاري الذي هو أحد المناهج القديمة في التأويل، والذي عرف بأسماء متنوعة، منها: التأويل الباطنيّ، والتأويل الرمزيّ. والتفسير الإشاري الذي يشترك مع الرمز عند تناوله للنص القرآني، فهو يقرّ بالظاهر ويعترف بأنّه هو المراد من الآية، وأنه المفتاح للحقيقة فيشير إلى أنَّ في الآية معنى آخر غير الظاهر ببعدها الثالث (ظاهر الباطن). وبذلك تكون الرموز منفذًا للخروج من الجو الفكري المألوف أو الميدان العلمي الرتيب الذي تواضع عليه الناس، والتحرر من القيود التي تُغِلَّ التفكير وتقف عند حدود النظرات المباشرة السطحية، فما يمكن الجزم به هو أنَّ الدلالة الرمزية ليست وليدة الزمن الحديث ولا هي قرينة بالأدب الغربي عامة، أو بالأدب الفرنسي على وجه الخصوص، بل هي موجودة في كل الحضارات والأديان، وجميعُها تبيّنُ أصالة الرؤية الرمزية منذ القديم، وإن كان يعوزها المنهج والعمق المذهبيُّ المتأخر.

إذْ إنّ الرمزية الحديثة تتأسس على قاعدة الإيحاء والغموض اللّذين صارا من ثوابت النظرية الجديدة، وهناك مَنْ يرى أنّ الرمزية ظلَّتْ تُلحُّ على ثنائية الظاهر والباطن باعتبارها تحكم جزيئات الواقع وتفاصيله وهذا عائد إلى كون الإنسان محاطًا بالأسرار التي تعدَّ روح الواقع وجوهره. هذه الأسرار مستودعة في القرآن، ولا يمكن سبر أغوارها وكشف أسرارها إلا بالعِلْمِ الشرعي والالتزام التامّ بالأوامر الإلهية، لأنّ المعرفة المباشرة صعبة باعتبار حالات النفس المركبة غير الواضحة بطبيعتها، رغم كون النفس البشرية وحدة متكاملة، ووسائل الإدراك وإنّ تعددت فهي تتشابه من حيث وحدة لفظ يُستمد من مجال حسيّ آخر، فيغدو المرئيّ مسموعًا والمسموع ملموسًا، وذلك عبر سمة الإيحاء، وجرّاء تكثيف الدلالة الرمزية.

فاللغة قاصرة عن الإحاطة بالمعنى الباطني، فكلما جنحت المعاني نحو الداخل استعصت اللغة وبانت غير قادرة على وصف تلك العوالم الخفية، فمعجم المفردات الخاصّ بالحياة الدنيا معجم قاصر عن التعبير عمَّا في الكون الغيبي؛ لذلك كانت خاصية الترميز من أجل خلق فاعلية ودينامية جديدة للمفردات تُمَكِّنُها من وصف الحالات الشعورية الخفية، وهذا ما تجلى في نظم القرآن الكريم، وقد تمّ اختيار سورة الرَّحمن لأنّها من السُّور العظيمة ذات الموضوعات المتنوعة، والصور الشاملة للنواحي الدينية العقائدية؛ وممَّا زاد الرغبة في تناولها بالبحث والدراسة غِناها بالرموز، ولبيان أسرار عظمة القرآن الكريم وإعجازه من خلال رموزها الغنية اللطيفة.